المادة    
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فإن خير الحديث كلام الله تبارك وتعالى، وخير الهدي هدي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وشر الأمور محدثاتها، ((إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ))[الأنعام:134].
ونسأل الله تبارك وتعالى أن ينفعنا وإياكم بما نسمع وما نقول وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
الموضوع الذي نريد أن نتحدث نحن وإياكم عنه، ليس عليكم بجديد، خصوصاً وأنتم تعيشون معمعة الجهاد من أجل تحقيقه إذا خلصت النية وصلح العمل -بإذن الله تبارك وتعالى- فإن ذلك كالجهاد، بل هو نوع من أنواع الجهاد.
والعلاقة بين الأمن والإيمان، وبين الإيمان والسلوك والعمل؛ قد جاءت واضحة جلية في كتاب الله تبارك وتعالى، وفي سنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأي أمل وأي هدف تسعى إليه الشعوب والدول والأمم في هذا الزمان وفي كل زمان أعظم من الأمن، إن العالم اليوم -كما تشاهدون- يعيش في بحبوحة من التقدم المادي والرفاهية الحضارية.
وإن الأمم الكبرى فيه والتي تسمى بالتحررية أو التقدمية تعيش في قمة التطور المذهل في مجالات الحياة المادية ولكنها مع ذلك تعيش في حضيض وفي نكد فقدان الأمن والأمان وتعيش في حالة من الرعب، والخوف، والقلق، والضياع الذي يسيطر عليها في جميع مناحيها.
وما أشبهها في ذلك بحال الأمم قبل بعثة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي أرسله الله تبارك وتعالى رحمة للعالمين، وما تزال رسالته التي تحقق الرحمة للعالمين بين أيدينا غضة طرية، وما نزال نحن حملة هذه الرسالة التي يجب أن نؤديها إلى العالم كله وإلى أنفسنا أولاً.
  1. أدلة الأمن والإيمان من كتاب الله

    العلاقة بين الأمن والإيمان، من جميع جوانبها جاءت في كتاب الله تبارك وتعالى، وأوضحها في حال الأمم السابقة وفي حالنا نحن لنتعظ ولنعتبر، فالله تبارك وتعالى يقول: ((وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)) [الأعراف:96]، وقال تعالى: ((وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ والإنجيل وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ))[المائدة:66]، ويقول جل شأنه: ((وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً)) [الجن:16] وآيات كثيرة تبين أنه لا أمن ولا رخاء ولا سعادة ولا طمأنينة إلا بالإيمان بالله تبارك وتعالى، وأن كل من يبحث عن الأمن في نفسه، أو مجتمعه، أو أمته فإنه لن يجده إلا في الإيمان بالله.
    فعليه أولاً أن يؤمن بالله، وأن يخضع أعماله وجوارحه وهواه لله تبارك وتعالى، يكون تابعاً لما جاء به محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الهدى والنور والحق والسُنة.
    ولهذا يقول جل شأنه في حال الطرف الآخر: ((وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ))[النحل:112].
    ويقول تبارك وتعالى في حال الطرف الآخر الذي لم يحقق الإيمان: ((فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ))[الأنعام:44-45].
    والعلاقة بين الأمن وبين الإيمان تتضح من نفس مبنى الكلمة في اللغة العربية، فإن الإيمان تتركب حروفه الأصلية من نفس الكلمة التي تتركب منها حروف الأمن، وهي الهمزة والميم والنون (أَمِنَ)، هذه المادة -مادة (أمن)- يشتق منها الإيمان، وتدل عليه كما تدل على الأمن، وتدل على مادة أخرى وهي (الأمانة) فنجد أن الأمانة والأمن والإيمان متقاربة في الاشتقاق في اللفظ، فهي متقاربة في المعنى وفي الدلالة، ويقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تأييداً لذلك: {المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس على أنفسهم وأموالهم} أو كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
    والأمانة يقول الله تبارك وتعالى فيها: ((إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً))[الأحزاب:72]، فما هذه الأمانة؟
    هي نفس عبء وحمولة الإيمان بالله وعبادة الله تبارك وتعالى التي قال فيها في موضع آخر: ((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ))[الذاريات:56]، فالأمانة هي مدلول الإيمان، وهي تشمل جميع الإيمان.
  2. الإيمان أعظم أمانة حملها الإنسان

    وأعظم أمانة أعطيها الإنسان أو كلف بها هي الإيمان بالله، وعبادة الله وتوحيده تبارك وتعالى، وفي نفس الوقت يجب على الإنسان أن يكون أميناً، وأن يأمنه المسلمون ويأمنه الناس وأن يكون مؤمناً بالله تبارك وتعالى.
    فهذه كلها خصال مشتركة مجتمعة يجمعها جميعاً قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح المتفق عليه: {الإيمان بضع وسبعون -أو وستون - شعبة فأعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان} فشهادة أن لا إله إلا الله هي الشعبة العليا، وهي التي لا يكون الإنسان مسلماً إلا بها، والحياء صفة تجمع صفات الخير جميعاً، ولهذا جاء في الحديث الصحيح أيضاً: {إن الحياء لا يأتي إلا بخيرأو إن الحياء خير كله} فالحياء كله خير، وهو جماع خصال الخير جميعاً، فإذا استحيا الإنسان من الله ومن خلق الله ومن المؤمنين، فإنه لن يرتكب عملاً محظوراً قط.
    ونتيجة لذلك سيكون الأمن في قلبه، وذلك نتيجة لخوفه من الله تبارك وتعالى، وسيكون الأمن في المجتمع لأن كل إنسان يستحي أن يعصي الله تبارك وتعالى، وأن يراه الله تبارك وتعالى على معصية وهو خال وحده، فكيف يفعلها جهاراً أمام الناس، فلا يعصي الله جهرةً إلا من سلخ ربقة الحياء وثوب الحياء منه أعاذنا الله وإياكم من ذلك.
  3. أعظم الأمن إنما يتحقق بتوحيد الله

    خصال الإيمان وشعبه تتفق وتلتقي حول هذه النقطة وحول هذا المبدأ، وأعظم الأمن إنما يتحقق بتحقيق توحيد الله تبارك وتعالى، ولهذا قال جل شأنه: ((الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ))[الأنعام:82] والأمن بالألف واللام (أل) هكذا للاستغراق، أي: أن كل الأمن إنما يكون لمن لم يلبس إيمانه بظلم, والظلم هنا هو الشرك كما فسره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لما شق على أصحابه هذا عند نزول الآية السابقة، فقالوا: {وأينا لم يظلم نفسه}، فصحابة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع أنه أفضل الناس بعد الأنبياء خافوا ألا يكون لهم هذا الأمن، لماذا؟ قالوا: {وأينا لم يظلم نفسه} وأينا لم يعص الله، ولم يرتكب خطيئةً أو ذنباً، ولكن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، طمأنهم فقال: {ليس ذلك، وإنما هو كما قال العبد الصالح :((يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ))[لقمان: 13]} فمن ترك الشرك، ولم يلبس ولم يخلط توحيده بشرك فله الأمن: ((أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ))[الأنعام:82]، فله الأمن في الدنيا وفي الآخرة، وله الهداية في الدنيا وفي الآخرة.
    أما في الدنيا فهو يعيش على الصراط المستقيم فهو من أهل الهداية، وأيضاً من أهل الأمن؛ لأن من لا يخاف إلا من الله تبارك وتعالى فإنه آمن من كل شيء.
  4. الصحابة ضربوا أروع الأمثلة في تحقيق الأمن

    ضرب أصحاب النبي من ذلك أعظم المثل: ((الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ))[آل عمران:173] فليس هناك أي خوف: ((إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ))[آل عمران:175]، فالمؤمن بالله تبارك وتعالى لا يخاف إلا منه تبارك وتعالى، ومن حقق التوحيد لا يخاف إلا منه تبارك وتعالى.
    ولهذا لا يخاف من الكفر وأممه وأسلحته وقوته وعدده وعدته أبداً, ولا يخاف من ذي هيبة أو شأن أن يقول له: اتق الله! أبداً، ولا يخاف من صاحب معصية أو فجور إن كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وكما أمره الله بالحكمة وبالموعظة الحسنة.
    فهذا في الدنيا وفي الآخرة: ((وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّه))[الأعراف:43] فلا يدخل الجنة بفضل الله ورحمته ابتداءً إلا من حقق التوحيد كاملاً غير منقوص، ومن كانت عليه من المعاصي ومن الكبائر ما يستحق بها دخول النار ولم تشمله رحمة الله تبارك وتعالى بداية، فإن مصيره إلى الجنة -بإذن الله- لِمَا حقق من التوحيد؛ لأن الله تبارك وتعالى قد تأذن لمن لقيه لا يشرك به شيئاً أن يدخله الجنة، وإن زنا وإن سرق.
    فإذا حقق الإنسان التوحيد فلا بد أن يدخل الجنة ولو بعد حين، ولا يعني ذلك أن من ارتكب هذه المنكرات لا يدخل النار -عافانا الله تبارك وتعالى وإياكم من النار- لكن يعني: أن مصيره -بإذن الله- إلى الأمن وإلى الجنة، وإن عذب ما عذب قبل ذلك، وإن خوف بما خوف، فتبين أن أعظم أمن يتحقق للإنسان هو تحقيق التوحيد، أي: طمأنينة الإيمان التي تكون بتوحيد الله.
    وانظروا إلى حال الذين لا يحققون توحيد الله تبارك وتعالى، كيف يعيشون في خوف، ولا يشعر بذلك الخوف -ولله الحمد- الذين تربوا على التوحيد وفهموه، وانظروا إلى حال الذين يتعلقون بالشياطين، والذين يعبدون الأولياء، والذين يعبدون السحرة والكهان والعرافين، والذين يتعلقون بالدجالين وأمثالهم يعيشون في خوف دائم وفي رعب وفي قلق نتيجة عدم تحقيقهم للتوحيد، فالإنسان منهم يخاف إذا عمل أي عمل، فهو يتكلم هو وصديقه في البيت وليس معهما أحد، ويقول له صاحبه: يا أخي اتق الله، ولا تذهب إلى الدجال ولا إلى الساحر ولا إلى الكاهن فهو إنما يضحك عليك، ويسلب مالك، وينهب عقيدتك، فيقول: اسكت، لا يسمعك الولي، وكأنه حاضر! فجعله رباً من دون الله تبارك وتعالى، وخاف منه وكأنه حاضر معه في ذلك المجلس، وقد يكون بينهما مئات الأميال.
    وهذا الخوف وهذا الرعب الذي يلقى في القلوب إنما هو نتيجة عدم تحقيق توحيد الله تبارك وتعالى.
    وأما من وحد الله تبارك وتعالى، ومن علم أن الله تبارك وتعالى هو وحده المعبود لا سواه، وهو وحده المدعو لا سواه، وهو وحده الذي يملك الضر والنفع، ولا أحد من العالمين يملك ذلك، فإنه لا يخاف إلا من الله تبارك وتعالى في سره وفي علانيته.
    فهذا هو أعظم ما يتحقق من أنواع الأمن بالإيمان بالله وبتوحيد الله تبارك وتعالى.